الاثنين، 9 نوفمبر 2009

فرنسا والمالية الإسلامية..خطوات على استحياء







قصة فرنسا مع المالية الإسلامية والبنوك الإسلامية متواصلة، وتتصاعد تفاعلاتها وفعالياتها يوما بعد يوم، فلا يكاد يمر شهر واحد بل حتى أسبوع واحد إلا وتشهد خلاله الساحة الفرنسية حدثا ما يتعلق بهذا الموضوع، والذي يعتبر موضوع الساعة في فرنسا بامتياز.



منذ أسبوعين تقريبا حدثت هزة سياسية صغيرة في العلاقة بهذا الملف، تم توظيفها من قبل أنصار النهج العلماني المتشدد، وخصوصا في أوساط اليسار الاشتراكي، الذي فقد مواقعه منذ اعتلاء الرئيس ساركوزي للسلطة، وبدأ يبحث عن أدوات جديدة للتدافع السياسي مع خصمه اليميني اللدود، والذي أوقع به هزيمة تاريخية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.






تمثلت هذه الهزة الصغيرة في رفض المجلس الدستوري لمشروع قانون يتعلق بجملة من الآليات المقترحة لتمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة، من ضمنها ما يعرف بمشروع "الفيدوسي" ( la fiducie) أي النقل المؤقت للملكية، الذي عثر عليه بعض أخصائي القانون في ثنايا التراث التشريعي الفرنسي(وهو ما يقابله في القانون البريطاني بنظام التريست trust) والذي يمكن بموجبه للبنوك الفرنسية التي ترغب في التعاطي مع نظام التمويل الإسلامي وتحديدا الصكوك الإسلامية، أن تصدر هذه الصكوك وتطرحها في السوق، دون أي عقبة قانونية.
رفض المجلس الدستوري هذا المشروع من حيث الشكل ولم ينظر فيه من حيث المضمون، وذلك بناء على طلب من الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي يريد من خلال هذه المناكفة السياسية المكشوفة إضعاف الرئيس ساركوزي ووزيرة اقتصاده كريستين لاغارد، التي تتزعم بكل حماسة وإصرار تيار الدفاع عن المالية الإسلامية، وأهميتها بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، وتدعو _بل وتعمل_ بكل قوة على ضرورة التفاعل الإيجابي معها، وامتطاء قطار المالية الإسلامية، والتنافس الصريح والمباشر مع الأطراف الأوربية والدولية الأخرى التي سبقت لذلك.
لكن هذا الرفض الشكلي لم يثن وزيرة الاقتصاد الفرنسي عن المضي قدما في اتجاه دفع القطار إلى الأمام، وتسريع الخطوات في هذا المسار...



فقد أعلنت هذا الأسبوع في اختتام الملتقى الفرنسي حول المالية الإسلامية والفرص التي تتيحها للمؤسسات الفرنسية والاقتصاد الفرنسي، عن قناعتها الراسخة بالمالية الإسلامية ودورها في إنعاش الاقتصاد الفرنسي من حيث المبدأ وليس بخلفية نفعية انتهازية بحتة كما يعتقد الكثيرون.. على حد تعبيرها.



وكان الملتقى قد انعقد في مقر وزارة الاقتصاد من قبل مؤسسة "الحلقة الأولى" Premier Cercle المختصة في تنظيم الندوات والتظاهرات المالية والاقتصادية، بالتعاون مع عدة أطراف فرنسية تعمل في هذا الاتجاه، من بينها المجلس الفرنسي للمالية الإسلامية ( COFFIS) أعلنت الوزيرة.



وقد انخرطت فرنسا في هذا المسار قبل اندلاع الأزمة المالية الأخيرة، والوزيرة الفرنسية تعتبر أن هذا المشروع الاستراتيجي يندرج ضمن اهتمام فرنسا بالبحث عن خيارات بديلة ومكملة للمالية الرأسمالية التقليدية، التي تسير وفقها السياسة الرسمية.



ويعتبر نظام التمويل الإسلامي في مقدمة هذه الخيارات البديلة، ليس من حيث ما يتيحه من رساميل (جمع رأس مال) مالية هائلة في زمن شح السيولة عالميا فحسب، وإنما أيضا من حيث ما يتوافر عليه هذا النظام الناشئ من فعالية ونجاعة وكفاءة، أثبتت جدارتها في الواقع، وهي تنبع من مبادئ المالية الإسلامية والاقتصاد الإسلامي التي تناهض الجشع والانتهازية والمضاربة الوهمية والبيوع الفاسدة، وكل ما يتعارض مع الأخلاق والقيم الإنسانية السامية، ويهدد الاقتصاد الحقيقي المرتبط بالعمل والإنتاج ومنافع الجماهير العريضة من الناس في كل المجتمعات.



ليست وحدها



لم تكن الوزيرة الفرنسية وحدها في عربة المالية الإسلامية، بل كان إلى جانبها كبار المسئولين والفاعلين في الوسط الاقتصادي والمالي الفرنسي، من ضمنهم وزيري الاقتصاد سابقا السيد جون اورتوي وهو عضو مجلس الشيوخ الفرنسي حاليا، ويقود لجنة مجلس الشيوخ المهتمة بملف المالية الإسلامية، وكذلك السيد آلان مادلين الذي فاجأ الحاضرين بدفاعه عن هذا التوجه، مضيفا بكل جرأة أن كل من يريد البحث عن تحريك الاقتصاد وتفعيل الاستثمار الخاص الذي يعرف ب " Private Equity " ما عليه إلا أن يقرأ القرآن.



أما السيد اورتوي Jean Artuis وزير الاقتصاد السابق وعضو مجلس الشيوخ فقد عبر بكل صراحة أنه اكتشف حقيقة نظام التمويل الإسلامي وما ينطوي عليه من مبادئ وقيم يفتقدها النظام الرأسمالي السائد، وهي مبادئ على غاية من الوجاهة والمنطقية والبساطة والعدل، يستطيع كل الناس إدراكها والتعاطي معها، مثل مبدأ المشاركة في الربح والخسارة أي الغنم بالغرم، الذي هو بديل عن مبدأ الإقراض بفائدة ربوية، وكذلك مبدأ تحريم الربا الذي استطاعت بفضله المصارف الإسلامية أن تنجو من مخاطر الأزمة الراهنة، وأيضا مبدأ منع بيع الديون وتجارة المشتقات التي تشجع الاقتصاد الرمزي على حساب الاقتصاد الحقيقي.



وعلى عكس ما يروج من شبهات حول المصارف الإسلامية وارتفاع كلفتها بالنسبة للمتعاملين معها التي يذهب بالبعض من المتحاملين إلى ربطها بالاستغلالية وانتهاز العواطف الدينية، عبر أحد الفاعلين في الساحة الاستثمارية الفرنسية مندوب مؤسسة ج.د.آف سيآز أن هذا الادعاء مجانب للحقيقة، باعتبار أن المصارف الإسلامية كسبت هذا التحدي وأضحت أكثر تنافسية من البنوك التقليدية.



وهي شهادة مهمة من كبرى الشركات الفرنسية المتعاملة مع التمويل الإسلامي منذ سنوات، وهو ما اعتبره مندوب مصرف قطر الإسلامي السيد جون مارك ريغال اعتراف مهم بنجاعة المصرفية الإسلامية وقدرتها على المنافسة، مما يدعو في نظره إلى ضرورة الإسراع بمعالجة العوائق المتبقية في طريق المصارف الإسلامية في فرنسا، وخصوصا ما يتعلق بالسماح لبنوك التجزئة المتجهة للجمهور، وعدم الاقتصار على صناديق الاستثمار الإسلامية ومؤسسات التمويل وبنوك الجملة.



وفي نفس السياق، سياق التنويه بنجاعة نظام المالية الإسلامية وأهميته بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، أكدت ممثلة مؤسسة اوروبلاس Europlace المعنية بالتسويق للسوق المالية الفرنسية على صعيد دولي، أن المالية الإسلامية في فرنسا أصبحت واقعا وحقيقة ملموسة لا يمكن تجاهلها أو التراجع عنها، وأسدت الشكر والتقدير لكل الأطراف العاملة في هذا المشروع وخصت بالذكر المجلس الفرنسي للمالية الإسلامية COFFIS الذي قام بترجمة المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية من نسختها العربية إلى الفرنسية، وهو ما سيساعد الجميع على التقدم أشواطا أخرى في اتجاه تسريع خطوات قيام بنوك إسلامية بالسوق الفرنسية .



وعبر مندوب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDEعن أهمية المالية الإسلامية، وضرورة استلهام الدروس والعبر منها لإصلاح ما أفسدته الجشاعة الليبرالية في الأسواق، وهي فرصة ثمينة للتدارك والتصحيح.



أما المدير العام لشركة السيارات الفرنسة "رونو" Renault لبناني الأصل فقد أعلن هو أيضا عن عزم شركته الدخول في هذا المجال، وفتح مؤسسته للتعامل مع ما تتيحه المالية الإسلامية من فرص ناجعة للتمويل المنضبط بالقيم الإنسانية، وأنه يجد في آليات النظام المالي الإسلامي ما يلبي حاجة المؤسسات الفرنسية الكبرى، التي تسعى للبحث عن خيارات بديلة وإضافية لمصادر وأساليب تمويلها.



واختتمت وزيرة الاقتصاد هذه الندوة المتميزة بالتأكيد على المنافع المشتركة التي ستحصل لفرنسا من جهة ونظام المالية الإسلامية ومن ورائها العالم الإسلامي، عبر تطوير هذا النظام وآلياته، ليقوم بدور فعال في تصحيح الخلل الهيكلي الذي يعاني منه النظام المالي الرأسمالي.



وكان الشيخ العلامة عبدا لله بن بيه نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس الهيئة الشرعية للمجلس الفرنسي للمالية الإسلامية قد ابرز في كلمة معبرة الدور التاريخي الذي يمكن أن يلعبه نظام المالية الإسلامية في مد جسور التواصل الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، تماما كما كان دور الفكر الإسلامي لعلماء الأندلس من أمثال ابن رشد وغيره.



وأكد أن "التشريع الإسلامي، وبخاصة في مجال المعاملات المالية، يتقدم اليوم للوساطة بين الغرب والعالم الإسلامي" ملمحا إلى أن هذا تم في فترات كثيرة من التاريخ حين "كانت الرياضيات مع الخوارزمي والفلسفة الإسلامية مع ابن رشد تقوم بالوساطة بين العالمين وبين عدوتي البحر الأبيض المتوسط".



مشكلات منهجية



أمام هذا الاهتمام المتزايد الملحوظ للسلطات الفرنسية بالمالية الإسلامية من منظور مزدوج، يجمع بين البحث عن المنفعة الذاتية من جهة، وتمتين الروابط مع العالم الإسلامي عبر المساهمة في تطوير آليات ومنتجات الصناعة المالية الإسلامية، في إطار الاستفادة المشتركة وتبادل المنافع البشرية، لا بد من التوقف عند بعض المشكلات المنهجية التي قد تعيق هذا المسار المنشود للمالية الإسلامية في فرنسا، والتي تحتاج إلى تصويب التفكير في سبل معالجتها قبل انطلاق القطار.



فطيلة السنوات الثلاث الأخيرة التي بدا فيها هذا الاهتمام الفرنسي بالمالية الإسلامية برزت رؤيتان متباينتان لكيفية التعاطي مع هذا الملف، وتعبران في نفس الوقت عن إشكالية حقيقية ستظل تلازم مشروع المالية الإسلامية في فرنسا إلى حين البت في إحداهما:



الأولى: تؤمن بضرورة تكييف نظام المالية الإسلامية مع مقتضيات القانون الفرنسي الذي يستند إلى مرجعية علمانية تفصل بين الحقل الديني وسائر الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى.



وترتكز هذه الرؤية على ما يزخر به القانون الفرنسي من ثروة تاريخية واسعة، يمكن الاستنجاد بها عند الضرورة لاحتضان المالية الإسلامية.



من أجل ذلك تمت الاستعانة بجهاز قانوني واستشاري كبير للبحث عن بدائل تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، وتكون بمثابة المداخل العملية لتطبيق آليات المالية الإسلامية.



وتم العثور فعلا على بعض البدائل التي تبدو إلى الآن مغرية للتكييف القانوني، لكي يتم تسكين المنتجات المالية الإسلامية فيها.. ومن ضمن هذه الآليات:
ـ نظام "تجارة العقارات" Marchand de Biens الذي يشبه إلى حد كبير نظام المرابحة عندما يرتبط تطبيقه ببيع العقارات والتجارة فيها.
ـ شركات المساهمة Société de Participation الذي يقابله نظام المشاركة أو الشركات في الفقه الإسلامي.



ـ نظام "الفيدوسي" La Fiducieأي النقل المؤقت للملكية وهو ما يقترب نوعا ما من نظام الوكالة.



ـ نظام التعاونيات في التأمين Les Mutuelles والذي يقابله نظام التأمين التكافلي أو التعاوني.



وفي هذا السياق لا تزال الجهود تبذل من أجل العثور على خيارات قانونية تلبي جزئيا أو كليا مقتضيات العقود المالية في الشريعة الإسلامية.
الثانية: تقوم على منهجية معاكسة للأولى، مفادها أنه لا مناص من ضرورة التكيف مع المالية الإسلامية كنظام له خصائصه ومبادءه، والعمل على اتخاذ إجراءات جريئة لاستحداث التشريعات اللازمة للتعاطي مع المالية الإسلامية، بالحفاظ على خصوصياتها وعدم المس بها، حتى لا يتم تنفير جمهور المتعاملين منها، عندما يصبح هناك منافذ للطعن في مصداقيتها وشرعيتها.



ولئن كانت هذه الرؤية لا تزال تطرح بشيء من الاحتشام والتردد في أوساط الأطراف التي تتصدى لتسويق المالية الإسلامية في السوق الفرنسية، إلا أن عامل الزمن وما يحيط بمسار الرؤية الأولى من تعثر وتردد ومراوحة، كل ذلك يعمل لصالح هذه الرؤية المنهجية التي تكتسب حيزا هاما من الموضوعية والبراغماتية الواضحة.



وما لم تحسم السلطات الفرنسية الموقف قبل فوات الأوان فإن قطار المالية الإسلامية سيظل في نفس المحطة، برغم كل ما يبذل من اهتمام وحرص لا شك فيه، ورغبة عارمة في احتضان البنوك الإسلامية آجلا أو عاجلا.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق